فصل: قال ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

جعل الضمير عبارة عن الحمس يلزم منه بتر النظم إذ الضمائر السابقة واللاحقة كلها عامة؛ والجملة معطوفة على قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم} ولما كان المقصود من هذه التعريض كانت في قوة ثم لا تفيضوا من المزدلفة؛ وأتى ب {ثُم} إيذانًا بالتفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأن إحداهما صواب، والأخرى خطأ، ولا يقدح في ذلك أن التفاوت إنما يعتبر بين المتعاطفين لا بين المعطوف عليه وما دخله حرف النفي من المعطوف لأن الحصر ممنوع، وكذا لا يضر انفهام التفاوت من كون أحدهما مأمورًا به، والآخر منهيًا عنه كيفما كان العطف لأن المراد أن كلمة {ثم} تؤذن بذلك مع قطع النظر عن تعلق الأمر والنهي، وجوز أن يكون العطف على فاذكروا ويعتبر التفاوت بين الإفاضتين أيضًا كما في السابق بلا تفاوت، وبعضهم جعله معطوفًا على محذوف أي: أفيضوا إلى منى ثم أفيضوا الخ وليس بشيء كالقول بأن في الآية تقديمًا وتأخيرًا والتقدير: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واستغفروا وإذا أريد بالمفاض منه المزدلفة وبالمفاض إليه منى كما قال الجبائي بقيت كلمة {ثم} على ظاهرها لأن الإفاضة إلى منى بعيدة عن الإفاضة من عرفات لأن الحجاج إذا أفاضوا منها عند غروب الشمس يوم عرفة يجيئون إلى المزدلفة ليلة النحر ويبيتون بها فإذا طلع الفجر وصلوا بغلس ذهبوا إلى قزح فيرقون فوقه أو يقفون بالقرب منه ثم يذهبون إلى وادي محسر ثم منه إلى منى، والخطاب على هذا عام بلا شبهة، والمراد من الناس الجنس كما هو الظاهر أي من حيث أفاض الناس كلهم قديمًا وحديثًا، وقيل: المراد بهم إبراهيم عليه السلام وسمي ناسًا لأنه كان إمامًا للناس، وقيل: المراد هو وبنوه، وقرئ: {الناس} بالكسر أي الناسي والمراد به آدم عليه السلام لقوله تعالى في حقه: {فَنَسِىَ} [طه: 115].
وكلمة ثم على هذه القراءة للإشارة إلى بعد ما بين الإفاضة من عرفات والمخالفة عنها بناءًا على أن معنى ثم أفيضوا عليها ثم لا تخالفوا عنها لكونها شرعًا قديمًا كذا قيل فليتدبر. اهـ.

.قال السمين:

قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ} استشكل الناسُ مجيءَ {ثم} هنا من حيث إنَّ الإِفاضة الثانية هي الإِفاضةُ الأولى؛ لأنَّ قريشًا كانت تَقِفُ بمزدلفة وسائرُ الناسِ بعرفة، فأُمروا أن يَفيضوا من عرفةَ كسائرِ الناس أجوبةٌ:
أحدُها: أنَّ الترتيبَ في الذِّكر لا في الزمانِ الواقعِ فيه الأفعالُ، وحَسَّنَ ذلك أن الإِفاضةَ الأولى غيرُ مأمورٍ بها، إنما المأمورُ به ذكرُ اللهِ إذا فُعِلَت الإِفاضةَ.
والثاني: أن تكونَ هذه الجملة معطوفةً على قولِه: {واتقون يا أولي} ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ وهو بعيدٌ.
الثالث: أن تكونَ {ثم} بمعنى الواو، وقد قال به بعضُ النحويين، فهي لعطفِ كلامٍ على كلامٍ منقطعٍ من الأول.
الرابع: أن الإِفاضة الثانيةَ هي من جمعٍ إلى منى، والمخاطبون بها جميعُ الناس، وبهذا قال جماعةٌ كالضحاك ورجَّحه الطبري، وهو الذي يقتضيه ظاهرُ القرآنِ وعلى هذا ف {ثم} على بابها، قال الزمخشري: فإنْ قلت: كيف موقعُ ثم؟ قلت: نحوُ موقِعها في قولك: أحْسِنَ إلى الناس ثم لا تُحْسِن إلى غير كريم تأتي بثم لتفاوتِ ما بين الإِحسانِ إلى الكريمِ والإِحسان إلى غيرِه وبُعْدِ ما بينهما، فكذلك حين أمرَهم بالذكر عند الإِفاضةِ من عرفات قال: {ثم أفيضوا} لتفاوتِ ما بين الإِفاضَتَيْنِ وأنَّ إحداهما صوابٌ والثانيةَ خطأٌ. قال الشيخ: وليست الآية نظيرَ المثال الذي مثَّله، وحاصلُ ما ذَكَرَ أن {ثم} تَسْلُب الترتيبَ وأنَّ لها معنىً غيرَه سَمَّاه بالتفاوتِ والبُعْدِ لما بعدها مِمَّا قبلها، ولم يَذْكُر في الآية إفاضة الخطأ حتى تجيء ثم لتفاوتِ ما بينها، ولا نعلمُ أحدًا سبقه إلى إثبات هذا المعنى لثم. وهذا الذي ناقشَ الشيخُ به الزمخشري تحاملٌ عليه، فإنه يعني بالتفاوتِ والبُعْد التراخيَ الواقعَ بين الرتبتين. وسيأتي له نظائرُ، وبمثلِ هذه الأشياءِ لا يُرَدُّ كَلامُ مثلِ هذا الرجل. اهـ.

.قال ابن عرفة:

وعادتهم يقولون: إنّها {ثم} للتراخي والمهلة فهي على بابها، والمهلة فيها بين الذي يليها فقط والذي يليها هو معطوف على ما قبله بالواو والمشهور في الواو أنّها للجمع من غير ترتيب ولا مهلة، فتكون الجملة الموالية لثم مراد بها التقديم. والتقدير: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا هَدَاكُمْ} {ثم أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} و{واذْكُرُا اللّه عِند المَشْعَرِ الحَرَامِ}.
قال ابن عرفة: وهذا معنى سادس لم يذكروه، وهو الذي ينبغي حمل الآية عليه. والله أعلم. اهـ.
قال ابن عرفة:
وعادتهم يقولون: لم عدل في الآية عن دلالة المطابقة وهي حقيقة إلى دلالة الالتزام، وهي مجاز، فعبر بالإفاضة المستلزمة للوقوف، وهلا عبر بالوقوف نفسه فيقول: ثم قفوا من حيث وقف الناس، فما السر في ذلك؟
قال: وعادتهم يجيبون عن ذلك بأنّ قريشا كانوا لا يخرجون من الحرم لشرفه ويرون الخروج عنه موجبا للوقوع في الإثم، ويقفون بالمشعر الحرام، فأتت الآية ردا عليهم وتنبيها على أن الخروج هنا لا ينقص أجرا ولا يوقع في الإثم ثم إنّ الإتيان إلى المحل الشريف من المحل البعيد مُشْعِر بنهاية تعظيمه وكمال تشريفه، فقصد التنبيه على الحكم مقرونا بعلته، وهذا هو المذهب الكلامي عند البيانيين.
ولو قيل: ثم قفوا، لما أشعر بالانتقال والرجوع من الحل إلى الحرم بعد الخروج منه، فعبر بالإفاضة التي من شأنها أن لاتكون إلا بعد وقوف لإشعارها بالانتقال من المحل البعيد وهو عرفة لأنه في الحل إلى هذا الحرم الشريف تكريما له وإجلالا، فالإفاضة مستلزمة للرجوع إلى الحرم، ومشعرة بالوقوف المستلزم للخروج من الحرمِ إلى الحل.
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأنه عبر بالإفاضة للمناسبة بينه وبين لفظه في أول الآية والله أعلم. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}:

.قال البقاعي:

{واستغفروا الله} أي اطلبوا من ذي الجلال والإكرام أن يغفر لكم ما كنتم تفعلونه أيام جاهليتكم من مخالفة الهدى في الوقوف وما يبقى في الأنفس من آثار تلك العادة ومن غير ذلك من النقائص التي يعلمها الله منكم. قال الحرالي: والعادات أشد ما على المتعبدين والطريق إلى الله تعالى بخلعها، وقد كان جدالهم أي في وقوفهم في الحرم بغير علم لأن العلم يقتضي أن الواقف خائف والخائف لا يخاف في الحرم لأن الله سبحانه وتعالى جعل الحرم آمنًا، فمن حق الوقوف أن يكون في الحل فإذا أمن دخل الحرم وإذا دخل الحرم أمن انتهى. وأظهر الاسم الشريف تعريفًا للمقام وإعلامًا بأنه موصوف بما يصفه به على وجه العموم من غير نظر إلى قيد ولا حيثية فقال: {إن الله} ذا الكمال {غفور} أي ستور ذنب من استغفره {رحيم} أي بليغ الرحمة يدخل المستغفر في جملة المرحومين الذين لم يبد منهم ذنب فهو يفعل بهم من الإكرام فعل الراحم بالمرحوم ليكون التائب من الذنب كمن لا ذنب له. اهـ.

.قال الثعالبي:

وأمر عز وجل بالاستغفار؛ لأنها مواطنه، ومظَانُّ القبولِ، ومساقطُ الرحْمَةِ، وفي الحديث أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم خَطَب عشيَّة عَرَفَةَ، فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَطَاوَلَ عَلَيْكُمْ فِي مَقَامِكُمْ هَذَا، فَقَبِلَ مِنْ مُحْسِنِكُمْ وَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ، إِلاَّ التَّبِعَاتِ فِيمَا بَيْنَكُمْ، أَفِيضُوا عَلَى اسم اللَّهِ»، فَلَمَّا كَانَ غَدَاةَ جَمْعٍ، خَطَبَ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ تَطَاوَلَ عَلَيْكُمْ، فَعَوَّضَ التَّبِعَاتِ مِنْ عِنْدِهِ». اهـ.

.قال السمين:

قوله: {وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ} استغفر يتعدَّى لاثنين أولُهما بنفسِه، والثاني بمِنْ، نحو: استغفرتُ الله من ذنبي، وقد يُحْذَفُ حرفُ الجر كقولِه:
أستغفرُ اللهَ ذنبًا لستُ مُحْصِيَه ** ربُّ العبادِ إليه الوجهُ والعَمَلُ

هذا مذهبُ سيبويه وجمهورِ الناس. وقال ابن الطراوة: إنه لا يتعدَّى إليهما بنفسِه أصالةً، وإنما يتعدَّى بمن لتضمُّنه معنى ما يتعدَّى بها، فعنده استغفرت الله من كذا بمعنى تُبْت إليه من كذا، ولم يَجِئ استغفر في القرآن متعدِّيًا إلاَّ للأولِ فقط، فأمَّا قولُه تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ} {فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} فالظاهرُ أنَّ هذه اللامَ لامُ العلةِ لا لامُ التعديةِ، ومجرورُها مفعولٌ من أجلِه لا مفعولٌ به. وأمّا غَفَر فَذُكِرَ مفعولُه في القرآنِ تارةً: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ}، وحُذِف أخرى: {وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ}. والسين في استغفر للطلبِ على بابها. والمفعولُ الثاني هنا محذوفٌ للعلم به، أي: مِنْ ذنوبكم التي فَرَطَتْ منكم. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {واستغفروا الله} فالمراد منه الاستغفار باللسان مع التوبة بالقلب، وهو أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله ويعزم على أن لا يقصر فيما بعد، ويكون غرضه في ذلك تحصيل مرضات الله تعالى لا لمنافعه العاجلة كما أن ذكر الشهادتين لا ينفع إلا والقلب حاضر مستقر على معناهما، وأما الاستغفار باللسان من غير حصول التوبة بالقلب فهو إلى الضرر أقرب. اهـ.
موعظة:

.قال ابن القيم:

ومن أنصف نفسه وعرف أعماله استحى من الله أن يواجهه بعمله أو يرضاه لربه وهو يعلم من نفسه أنه لو عمل لمحبوب له من الناس لبذل فيه نصحه ولم يدع من حسنه شيئا إلا فعله.
وبالجملة فهذا حال هذا العبد مع ربه في جميع أعماله فهو يعلم أنه لا يوفي هذا المقام حقه فهو أبدا إذا سلم من الصلاة استغفر الله ثلاثا وقال تعالى: {وبالأسحار هم يستغفرون} قال الحسن: مدوا الصلاة إلى السحر ثم جلسوا يستغفرون ربهم وقال تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} فأمر سبحانه بالاستغفار بعد الوقوف بعرفة والمزدلفة وشرع للمتوضئ أن يقول بعد وضوئه: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فهذه توبة بعد الوضوء وتوبة بعد الحج وتوبة بعد الصلاة وتوبة بعد قيام الليل، فصاحب هذا المقام مضطر إلى التوبة والاستغفار كما تبين فهو لا يزال مستغفرا تائبا وكلما كثرت طاعاته كثرت توبته واستغفاره. اهـ.

.قال السعدي:

ينبغي للعبد، كلما فرغ من عبادة، أن يستغفر الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة، ومن بها على ربه، وجعلت له محلا ومنزلة رفيعة، فهذا حقيق بالمقت، ورد الفعل، كما أن [ص 93] الأول، حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أخر. اهـ.